من سخريات القدر فعلاً حينما نرى من المبدعين وهم كثر لم تنصفهم أزمانهم ، وهناك من التافهين من ٌقد أُشير لهم بالبنان ! وهذا ما يدمي القلب ويلهب الوجدان .
فالأديب عباس محمود العقاد لم ينل نصيبه من التكريم والتقدير وهو القامة الأدبية المرموقة . كان يمازح زملائه من الأدباء والمثقفين حين يقول لهم : ان مصر بلد عجيب ، إذا أرادوا تدعيم الإسلام نشروا كتبي ، واذا أرادوا ان يهاجموا الشيوعية نشروا كتبي ، واذا رشحوا احداً لجائزة نوبل رشحوا طه حسين !! وعاش العقاد كما مات فقيراً وحيداً ، وقد لازمه الفقر ومحاولة الانتحار ، ومد يده الى اصدقاءه فردوها كثيراً وأعطوه قليلاً .
ومثله أبو حيان التوحيدي أديب وفيلسوف وناقد وعالم ، وكتابه ( الإمتاع والمؤانسة ) من روائع الادب الفلسفي او الفلسفة الأدبية ، وقد ضاق أبو حيان بالناس وبالحكام ووقف بأبوابهم ولعنهم ، وقد كان خطه جميلاً وحظه سيئاً ، فقد كان يعيش على نسخ الكتب ، وقد حاول احد الوزراء ان ينسخ له مؤلفاته فرفض .
وهناك تعيسٌ آخر مثله رفض ان يتلو قصائد الشعراء بأدائه الجميل لأنه شاعر ، وهو كامل الشناوي . . وقد طرد أبو حيان من كثير من القصور الاميرية والملكية ، وفي آخر أيامه أحرق كتبه يأساً من الكتابة ومن القراء ومن الزمان . . وقد مد يده ولسانه ، ولم يفز إلا بالقليل من المال والطعام . . ولا يعرف كيف عاش وكيف مات وأين دُفت ! وهو نموذج كامل الاوصاف للفيلسوف اللامنتمي .
وكذلك التعيس الثالث ابن حزم الاندلسي . . الشاعر الرقيق الحزين الذي يدخل السجن ويخرج ليدخل سجناً آخر . . واذا تكلم فهو سليط اللسان ، ولذلك عاش هارباً من وزير وأمير . . وتردد بين المذاهب ، وتردد عليها ، ولم نعرف له مذهباً او رأياً . . لم ينقذه الشعر من السياسة ولم ترحمه السياسة فتفرغ للادب والشعر والعلم . .
وبين العقاد وأبو حيان وابن حزم حوالي الألف سنة ، وكأنهم جميعاً قد عاشوا في ذات الزمن ! فنصيبهم جميعاً من التكريم قليل ، ولذلك لم يكن التفكير في الانتحار بعيداً عنهم . . ان حياتهم وغضبهم وسخطهم ليست بعيدة عن عيني وما أكثر المبدعين الذين طواهم الزمن ولم تعرف منزلتهم إلا بعد رحيلهم ، هذا إن تم إنصافهم فعلاً ، وآخرون طواهم النسيان شأنهم شأن أي شخص عادي ، وما أكثر التافهين الذين صالوا وجالوا في زمن الجهل المستشري في مجتمعاتنا .